حقوق الإنسان ومنظومة القيم الإسلامية
صفحة 1 من اصل 1
حقوق الإنسان ومنظومة القيم الإسلامية
محمد حلمي عبد الوهاب
لا تعد ثقافة حقوق الإنسان عصرية لأنها صارت في مقدمة القضايا التي تشغل بال العالم في الوقت الراهن فحسب؛ وإنما لأنها تمثل حدا فاصلا بالفعل بين عصر تواترت فيه صور مختلفة للتشيؤ والتشوه طعنت وقهرت «إنسانية البشر»، وآخر يرنو إليه الكثيرون وفي أذهانهم أحلام كبيرة عن إطلاق وإغناء إنسانية الإنسان في خضم الاعتراف المتزايد والمقنن له بحقوق معينة غير قابلة للإنكار، كالحق في الرأي، والتعبير، وحرية المعتقد، وغيرها من الحقوق.
وبحسب ما يؤكد الدكتور محمد السيد سعيد؛ فإنه عند هذا الحد تتداخل منظومة حقوق الإنسان - بوصفها قيما إنسانية عالمية - مع الإلزام الخلقي والقانوني على المستويين: الفردي، والجماعي؛ بحيث تصير مواثيقها مصدرا أساسيا ومباشرا للأخلاق الفردية والجماعية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار، أن البديل المنطقي الوحيد لفلسفة القانون الطبيعي - كأساس نظري وعملي لعالمية حقوق الإنسان - هو كونها تعد تعبيرا عن إرادة جماعية ظاهرة تصر على تمكين كل الناس، دون استثناء، من التمتع بحد أدنى من المعاملة اللائقة بالإنسان.
وعلى الرغم من ادعاء البعض الرافض لمنظومة القيم الحقوقية بأن المصادر الأساسية لتاريخ وفلسفة حقوق الإنسان كتبها علماء غربيون لا يعرفون شيئا عن النظم الثقافية الكبرى غير الغربية، بما في ذلك منظومة القيم والمبادئ والأعراف الإسلامية؛ فإن ذلك يتعارض صراحة مع بديهية أن كل مبدأ أو فكرة قانونية أو أخلاقية تقطع رحلة طويلة في الزمان والمكان قبل أن تتبلور في صيغتها النهائية.
ومع ذلك؛ فإن المسألة لا تقتصر على اكتشاف - أو بالأحرى إعادة اكتشاف - مصادر ما لمشروعية المنظومة الراهنة لحقوق الإنسان في النظم الثقافية الكبرى، بما في ذلك بالطبع ثقافتنا العربية الإسلامية؛ إذ إنها فوق كل شيء ضرورة معرفية والتزام أخلاقي، خاصة أن مصير حركة حقوق الإنسان والإمكانيات الحقيقية المتعلقة بتطبيقاتها في كل مكان، لا تتوقف فقط على إعمال قواعد قانونية وآليات حماية قضائية وتنفيذية وتشريعية، وإنما قبل ذلك كله تتوقف على مدى إيمان الناس بها، كمصادر أخلاقية فردية وجماعية، ورغبة بعضهم في قيادة الطريق نحو التمكين لها بروح التكرس الكامل، وعلى تكوين هذا الوجدان وهذه العاطفة الحاملة لأمانة التطبيق والتنفيذ والتطوير الدائم.
ومن هنا، تتمثل منظومة حقوق الإنسان باعتبارها «منصة أخلاقية» تستند إلى مبدأين أساسيين هما: الحق، والقوة. فعلى الرغم من أن جميع أشكال الحرمان وأنماط إنكار آدمية الإنسان (الرق، العبودية، الأقنان) قد صارت جميعها – تقريبا - إلى زوال، ولم يعد في الإمكان تبريرها، فإن أنواعا مستحدثة منها لا تزال تعيش بيننا في نظم عديدة وبادعاءات متعددة. ولكن جوهرها يبقى دائما واحدا: استخدام القوة - المطلقة أو المقيدة بقيود غير كافية - للسيطرة على بعض بني البشر، وإنكار آدميتهم، وإيقاع الحرمان والتنكيل بهم، وإهدار كرامتهم.
وإذا كان الناس يلقون معاملة غير متساوية؛ فلأن ذلك يعكس بالدرجة الأولى توظيفا واستخداما مفرطا للقوة الجبرية من جانب مَن لهم مصلحة في الاستئثار بمزايا معينة بما يترتب عليه حرمان غيرهم. والقاعدة المبدئية لما يشبه القانون في هذا السياق، أنك إذا ما قبلت بأن تمارس منطق القوة على الآخرين، فإنك تضفي بذلك مشروعية على وقوعك أنت ضمن العلاقة نفسها، حال تبدل منطق القوة وانتقاله من بين يديك إلى الطرف الآخر!! وأبلغ مثال على ذلك؛ هو أن تقبل كمسلم حرمان الأقلية الدينية في وطنك – بحكم ما لك من أغلبية وقوة في هذا البلد أو ذاك - من حقهم في أن ينظروا لديانتهم بالطريقة نفسها، أو أن ترتب لهم معاملة أدنى تنطوي مثلا على حرمانهم من حقهم في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، وبناء أماكن عبادتهم، أو الانتقاص من حقهم في المساواة القانونية الكاملة معك في الحالات كلها.. فأنت باتخاذك مثل هذا المسار يتعين عليك أن تقبل أن يفعل أصحاب الديانة الأخرى ذلك، حين تكون لهم الأغلبية أو القوة المطلقة!! وعندئذ ستحرم من حقك في ممارسة شعائرك الدينية على نحو ما فعلت بهم، وهكذا بالنسبة لكل ضروب عدم المساواة القائمة على أي اعتبار آخر: عرقي، أو جنسي.. إلخ.
ولا شك أن الاعتراف بتعددية حقوق الإنسان وأصولها الفلسفية ومرتكزاتها الأخلاقية، بوصفها أحد المصادر المباشرة للأخلاق الفردية والجماعية؛ فضلا عن أنه يعد انتصارا لنضال واسع وممتد، يمثل في الوقت نفسه إضافة قيمية حقيقية ومنجزا معرفيا أخلاقيا يمكنه أن يضطلع بدور جوهري في الدفع نحو احترام حقوق الإنسان في كل زمان مكان، بغض النظر عن اختلاف اللون والعقيدة والجنس.
فقد جاء الإسلام ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولذلك فإن كل فعل يقتضي خضوع الإنسان كلية لأية جهة يعد خروجا عن غاية الرسالة الإسلامية؛ إن لم يكن بمثابة إعلان حرب عليها، بما في ذلك خضوع المرء كلية لشهواته الشخصية!! أضف إلى ذلك أيضا، أن الإسلام يساوي بين التحرر من العبودية من جهة، وذلك بإحلال عبودية الله محل عبودية البشر، وبين تحقق معنى الحرية الإنسانية من جهة أخرى! فالعبودية لله مشروطة باللاعبودية للآخرين، وفي هذا يكمن معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وكما يقول أحمد بن خضرويه البلخي: «في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية»!! والحرية، بهذا المعنى، ليست أمرا سلبيا محضا كما يتوهم البعض؛ وإنما هي ذات مضمون فاعل في تحقيق التحرر داخل النفس البشرية من عبودية الآخر؛ كل آخر، من ناحية، ومن عبودية الشهوات وإطاعة اللذات من ناحية أخرى. كما لا تعني الحرية كذلك ذلك المحتوى المرتبط بالسلوك السياسي داخل الإطار الاجتماعي فقط؛ وإنما تتعدى ذلك إلى الحرية بمفهومها الروحي المتعالي! فثمة حرية ذاتية، وأخرى غيرية، وتحقق هذين الضربين من الحرية يفضي لا محالة إلى تحقق كلا الجهادين: الأصغر والأكبر، بحسب الحديث النبوي الشريف: «رجعنا من الجهاد الأصغر (القتال) إلى الجهاد الأكبر (جهاد النفس).
والحرية بهذا المعنى أيضا، تعني «التحرر من رق الأغيار»، وهنالك لا يستعبد الإنسان شيء، ولا يخضع لسلطان النفس، ولا يرضى الدنية في نفسه ودينه؛ وإنما يصدع بالحق وللحق، فمن خاف الله خافته كل الأشياء، ولا يدخل ملكوت الله من كان عبدا لسيدين!! وكما يقول روبرت شولز: «ترفض بعض الخطابات أن تنفتح لنا؛ حتى ننضج بما فيه الكفاية»، وكذلك الحال في ما يتعلق بتناولنا مسألة العلائق الجامعة بين حقوق الإنسان من جهة ومنظومة القيم الإسلامية من جهة أخرى، حيث يتوقف نضجنا على إدراك ضرورة الانفتاح على العالم، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن المثالية والواقع - فيما يؤكد محمد إقبال - ليستا قوتين متنافرتين لا يمكن التوفيق بينهما بحال من الأحوال، وأن حياة المَثَل الأعلى لا تتمثل في انفصام كامل عن الواقع الذي ينزع نحو تحطيم الوحدة العضوية للحياة وتشتيتها في صورة مواجهات مؤلمة؛ ولكنها تتمثل في جهد المَثل الأعلى ذاته الدائب للاستئثار بالواقع بقصد احتوائه إن أمكن واستيعابه وتحويله في ذاته وإنارته في مجموعه!! وإذا كانت عملية «التنزيل» (الوحي) قد تم نقلها من السماء عموديا؛ فإنها كانت تستهدف الإنسان بالأساس وبالدرجة الأولى، وهو ما عبر عنه النص القرآني الكريم: «قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَمَاءِ مَلَكَا رَّسُولا».
وهذا الأمر يفرض علينا في كل عصر أن نأخذ بعين الاعتبار المراحل المتتابعة من الأنثروبولوجيا الإنسانية؛ خاصة تلك التي وسمتها، وبعمق، الثورة التكنولوجية، وبحث الآثار المترتبة عليها أخلاقيا، ليس فقط على المستوى العملي، وهو ما فهمه هيدغر تماما، وإنما أيضا على المستوى الثقافي وعلى مستوى المواقف والعقليات بما فيها مستوى النظر الفكري المجرد.. «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».
* كاتب مصري
اللبدانى- عدد المساهمات : 3
نقاط : 9
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 22/01/2012
مواضيع مماثلة
» احترام حقوق الانسان
» ابن القيم
» يقول ابن القيم:
» يقول ابن القيم
» مدينة الذهب المفقودة، الدولة الإسلامية التي يعشقها الغرب ويجهلها العرب تماماً
» ابن القيم
» يقول ابن القيم:
» يقول ابن القيم
» مدينة الذهب المفقودة، الدولة الإسلامية التي يعشقها الغرب ويجهلها العرب تماماً
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة مايو 17, 2019 10:53 pm من طرف الكويتى
» ابرز العلماء المسلمين
الجمعة مايو 17, 2019 10:26 pm من طرف الكويتى
» الإعجاز العددي ... في سورة الكوثر
الجمعة مايو 17, 2019 10:09 pm من طرف الكويتى
» افضل الاطبا ولكن لماذا تذهبون اليه متاخرا ؟
الجمعة مايو 17, 2019 9:57 pm من طرف الكويتى
» ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺃﻧﺒﺖ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﻴﻘﻄﻴﻦ
الجمعة مايو 17, 2019 9:50 pm من طرف الكويتى
» تعلم كتابة الكسرة والفتحة والضمة وأسرار الكيبورد
الجمعة مايو 17, 2019 9:06 pm من طرف كايد
» فوائد الكركديه البارد والساخن
الثلاثاء فبراير 19, 2019 1:04 pm من طرف البرغوتى
» فوائد الجنسنج للجنس للرجال والنساء
الثلاثاء فبراير 19, 2019 12:50 pm من طرف زغرب
» فوائد اليانسون للجهاز الهضمي واستخدامه في تخفيف الوزن
الثلاثاء فبراير 19, 2019 12:11 pm من طرف طاعت